الاثنين، 20 ديسمبر 2010

ولكن الله رمي


الحل العبقري يأتي من السد العالي
في يوم الخامس من أكتوبر 1973 كانت القيادة العسكرية في إسرائيل تناقش الموقف .. كانت رئيسة وزراء إسرائيل "جولدا مائير" تشك في أن مصر تعد للحرب , ولذلك استدعت ليلا الجنرال اليعازار رئيس الأركان الإسرائيلي تسائله عن إمكانية عبور المصريين لقناة السويس. طمأنها الجنرال بقوله: "المعروف دوليا أن أصعب الموانع المائية في العالم اثنان لا ثالث لهما , وهما قناة السويس وقناة بنما وذلك لطبيعة المياه والعمق والعرض . وإذا أضفنا إلي ذلك كله المواقع الحصينة في خط بارليف ومواقع الاشتعال البترولي ثم سمك الساتر الترابي فإن ذلك كله – بدون أي تفكير – كاف للدلالة على استحالة عبور المصريين للقناة ".. بل ويحتاج المصريون إلي سلاح المهندسين لدي السوفيت والأمريكان ليستطيعوا اتمام العبور ان استطاعوا

وبعد ساعات قليلة من تأكيدات الجنرال الإسرائيلي وفي الساعة الثانية ظهرا تهاوي الساتر الترابي تحت أقدام المصريين, وبسلاح لم يكن متوقعا , إذ جهز الجيش المصري 80 مدفعا للمياه نجحت في فتح ثغرات في الساتر.. وكان لهذه الفكرة قصة عجيبة.. في أكتوبر 1969 عقد اللواء أركان حرب سعد زغلول عبد الكريم اجتماعا لمناقشة كيفية العبور والقضاء على خط بارليف.. كان الحضور مشكلا من: العميد أركان حرب أبو الفتح محرم ، ورئيس العمليات اللواء أركان حرب/ طلعت مُسلم ، رئيس فرع المهندسين العقيد/ سمير خزام ، ورئيس فرع الإشارة العقيد/ صبحي اليوسف، ورئيس فرع الاستطلاع الرائد/ عادل زكريا.

بدأ اللواء سعد زغلول الحديث بعرض التفاصيل التي لديه, بعدها بدأ كل رئيس تخصص عرض وجهه نظره , منهم من قال: التغلب على الساتر الترابي يكون بقذفه بالقنابل. وقال آخر: بل نقذفه بالصواريخ والمفرقعات والمدفعيات .. سأل اللواء زغلول عن الوقت الذي تستغرقه عمليات فتح ثغرات في الساتر للتمهيد لعبور القوات المصرية خاصة أن عملية الفتح ستتم تحت ضغط نيران العدو؟! قال المجتمعون: فتح الثغرات قد يتم في خلال 12 إلي 15 ساعة .. هنا ومضت فكرة بسيطة في ذهن الضابط المهندس ذكي يوسف..

تذكر دوره كضابط أثناء معركة بناء السد العالي.. في عام 1964 كان يقوم باستخدام المياه لتجريف جبال الرمال , باستخدام قوة دفع المياه ينهار أشد الجبال ويتحول إلي حبات رمال تغرق في قاع النهر ليتم سحبها مرة أخري وشفطها في أنابيب خاصة لاستغلالها في أعمال بناء جسم السد. على الفور عرض الضابط الشاب الفكرة على اللواء زغلول: يا فندم .. ربنا حط المشكلة وجنبها الحل .. لكي نفتح ثغرات في الساتر الترابي علينا أن نوجه مدافع مياه مضغوطة إلي جسم الساتر لتجرى رماله إلى قاع القناة".

استمر في شرح فكرته الغريبة.. الصمت يلف المكان.. والدهشة تعلو وجه الحاضرين..هل يمكن بهذه الفكرة البسيطة أن تتغلب مصر على خط بارليف .. أقوي عائق طبيعي في العصر الحديث؟!. لقد أثبت عقل فلاح النيل أنه يستطيع أن يبتكر أشياء بسيطة لكنها في غاية الفاعلية.. وبعد المناقشات المستفيضة في الاجتماع شعر قائد الفرقة أن هذه الفكرة يجب أن تدرس جيدا، وخصوصا أن البدائل التي عرضت في الاجتماع لحل مشكلة العبور كانت بدائل تقليدية وقد تكون متوقعة من العدو.

وفي نهاية الاجتماع.. اتصل قائد الفرقة 19 بقائد الجيش الثالث وأطلعه على الفكرة , فطلب منه الحضور مباشرة في اليوم التالي لمناقشتها. أعجبت الفكرة قائد الجيش الثالث فطلب من زكي يوسف إعداد تقرير فني عن فكرته وكيفية تنفيذها .. وقد نال هذا التقرير أعجاب الرئيس عبد الناصر الذي أمر بتجربتها.. فقام زكى يوسف بتصميم مدفع مائي فائق القوة لقذف المياه ، في إمكانه أن يحطم ويزيل أى عائق أمامه أو أي ساتر رملي أو ترابي في زمن قياسي قصير وبأقل تكلفة ممكنة مع ندرة الخسائر البشرية.

وقامت إدارة المهندسين بالعديد من التجارب العملية والميدانية للفكرة زادت على 300 تجربة اعتبارا من سبتمبر عام 1969 حتى عام 1972 بجزيرة البلاح بالإسماعيلية ، حيث تم فتح ثغرة في ساتر ترابي أقيم ليماثل الموجود على الضفة الشرقية للقناة , وبناءا على ضوء النتائج المرصودة تم إقرار استخدام فكرة تجريف الرمال بالمياه المضغوطة كأسلوب عملي لفتح الثغرات في الساتر الترابي شرق القناة في عمليات العبور المنتظرة .

يقول الدكتور جمال حمدان في كتاب " 6 أكتوبر في الإستراتيجية العالمية " : "ولا يظن أحد أن هذه العملية كانت كشفا أو تطبيقا سهلا , فقد كان لابد من التوصل إلي طلمبة مياه صغيرة الحجم تعمل بالوقود , خفيفة الوزن فائقة الضخ , يمكن حملها باليد وتحميلها على قوارب ويكفي أقل عدد منها لفتح ثغرة واحدة. وقد وجد أن الحد الأدنى هو 3 طلمبات , واقتضي هذا عمل سنين .

كذلك لا ينبغي أن نتصور فتح الثغرة بعد ذلك عملية روتينية هينة , فالطين اللزج الذي تطيح به خراطيم المياه الجبارة بكميات هائلة وسرعة مخيفة لا يحيل فقط وجوه الرجال إلي السواد , ولا ينجرف إلي المجري المائي فيلزم إزاحته على الفور كذلك فحسب , ولكنه يبقي على أرضيه الثغرة وقاعها وحلا لزجا زلقا بعمق قد يصل إلي المتر مستحيل عبور الدبابات والآليات عليه إلا بعد إزاحته بالجرافات ثم فرشه بمواد جافة كالخشب أو الحجارة أو أكياس الرمل أو ألواح الصلب أو الشباك المعدنية أو غيرها بحسب طبيعة التربة".

وقد نجحت الفكرة نجاحا باهرا خلال المعركة , فقد تم الانتهاء من فتح أول ثغرة في الساتر الترابي الساعة السادسة من مساء يوم العبور , وفي الساعة العاشرة مساءا تم فتح 75 % من الممرات المستهدفة , وعبر أول لواء مدرع فى الساعة الثامنة والنصف من مساء نفس اليوم.. وتقديراً لجهوده تم منح الضابط المهندس يوسف زكي نوط الجمهورية العسكري من الطبقة الأولى تسلمه من يد الرئيس الراحل أنور السادات في فبراير 1974 ، وتسلم وسام الجمهورية من الطبقة الثانية من الرئيس حسني مبارك بمناسبة إحالته إلى التقاعد من القوات المسلحة عام 1984م.

تسلق الساتر الترابي .. بـ "سلم خشبي"
كانت من المشكلات التي ستواجه الجيش المصري على الضفة الشرقية هي تسلق الجنود للساتر الترابي, فهو يرتفع بنحو 10 و 15 و 20 متر في المتوسط , بجانب أنه يهوي في بعض المناطق بشكل شبة عمودي إلي مياه القناة , وهو أمر يصعب من عملية ارتقائه , وحتى لو تسلقه الجندي بنجاح فأنه سيبذل مجهودا خارقا في عملية التسلق وحدها , فما بالنا بالمجهود المطلوب منه بعد ذلك حينما يواجه الجندي العادي المدرعات والدبابات الإسرائيلية , وإذا أضفنا إلي ذلك أن عملية التسلق ستكون والجنود يحملون أسلحتهم والصواريخ المضادة الدبابات والذخائر والعتاد لعلمنا مقدار الجهد المطلوب لعملية التسلق وحدها.

وكان الحل للتغلب على تلك المشكلة عبقريا وبوسيلة غاية في البساطة والبدائية في آن واحد ,فقد استخدمت القوات المسلحة سلما عبارة عن حبلين بينهما عوارض خشبية , وفي بداية عبور القوات يتسلق أحد الجنود الساتر الترابي وهو يحمل هذا الحبل ملفوفا , وعندما يصعد إلي قمة الساتر الترابي يثبته فيه ويدلي الحبل ليتسلق عليه باقي زملائه.

عرفنا عمق الشاطئ الشرقي .. بقلم جاف !!
كانت خطة العبور تعتمد علي إنشاء مجموعة من الكباري والمعابر لنقل الأسلحة من دبابات ومعدات ثقيلة إلي شرق القناة .. واستلزم التخطيط لإنشاء تلك الكباري والمعابر معرفة وضع الشاطئ الشرقي للقناة.. وحينما طلبت القوات المسلحة من هيئة قناة السويس معرفة عمق الشاطئ الشرقي .. كان الرد بأن القناة مغلقة منذ سنوات وبالتأكيد لابد أن الشاطئ الشرقي قد تغيرت إبعاده وحساباته ..وكان الحل هنا عبقريا وبسيطا..

دفعت القوات المسلحة بعدة دوريات في مناطق الكباري والمعابر .. كل منها تتكون من فردين اثنين يجيدان السباحة ولا يحملان أي معدات حديثة . فقط "قلم جاف".. وفي الليالي المظلمة يعبر الجنديان .. ويتسلق أحدهما فوق الساتر ليراقب دوريات العدو .. والآخر يبقي في المياه ليحدد المقطع المائي.. يقف علي أول الشط ويحدد علامة بالقلم الجاف عند سطح وتماس المياه علي سطح "الأفرول" – الزى الذي يرتديه الجندي - ثم يتحرك خطوة إلي داخل المياه ويكرر التحديد مرة ثالثة ورابعة حتي تصل المياه إلي عنقه .. هنا يكون عمق القناة مثر ونصف المتر.. ثم يعود الجنديان ليجدا ضابط استطلاع هندسي في انتظارهما ليقيس خطوات الفرد والعلامات على ملابسه .. وبهذه الطريقة البدائية والبسيطة والعبقرية نجحنا في معرفة عمق الشاطئ الشرقي للقناة.

بدأت القوات المصرية تبحث عن حل للخزانات, حتى أسرت يوما ضابطا ومهندسا بالجيش الإسرائيلي , ولحسن الحظ كان هذا الضابط مسئولا عن النابالم , ومنه عرفنا أماكن مواسير النابالم وتوزيعها بطول الجبهة , وتأكدت مصر من صدق المعلومات التي قالها الضابط بأن أرسلت دوريات استطلاعية , وتجاهلت مصر تلك الخزانات حتى ليلة العبور.. في تلك الليلة تم دفع دوريات عبارة عن فرد واحد في مواجهة كل ماسورة للنابالم , يحمل في جيبه "خابور كاوتش" بحجم فتحة الماسورة وفي نهايته كيس بلاستيكي به مادة أسمنتية تتصلب علي المياه المالحة.

وعند العبور ..قامت القوات الإسرائيلية بمحاولة فتح أنابيب النابالم .. وكم كانت دهشتهم .. فلم يعمل أي واحدا منها... ولأن الخيبة كانت كارثية ... فقد تجاهلت إسرائيل الحديث تماما عن أنابيب النابالم في وسائل إعلامها .. حتى اليوم .. لقد نجحت مصر في إخراج ذلك السلاح الرهيب الحارق من المعركة قبل أن تبدأ و"أحرقته" تماما.

الجندي في مقابل دبابة

من عجائب هذه الحرب أن الجندي المصري , فرد المشاة هو الذي تحمل لوحده الصدمة الأولي من القوات الإسرائيلية ريثما تكون باقي الأسلحة قد عبرت القناة , فقد عبر الجنود في قواربهم المطاطية وتسلقوا الساتر الترابي , وكان عليهم هنا أن يواجهوا لمدة تقترب من الست أو الثمانية ساعات القوات التي وضعتها إسرائيل في خط بارليف , حتى يكون سلاح المهندسين قد نجح في إقامة المعابر والكباري والمعديات لعبور الأسلحة الثقيلة.. ولهذا فقد انبهر العالم وصعقت إسرائيل حينما سقط خط بارليف على أيدي الجنود المشاة , ولم تكن سائر الأسلحة إلا عوامل مساعدة , وذلك بحكم طبيعة تلك الحصون التي تستعصي على المدفعية الثقيلة . وكان الجنود مزودة فقط بالقنابل اليدوية والمدافع الرشاشة والصواريخ المضادة للدبابات .
 وطالما تبجحت إسرائيل بتفوق سلاح مدرعاتها .. حتى جاءت اللحظة التي سجلها التاريخ .. وفوجئت إسرائيل بالجندي المصري يواجه الدبابة ..واستطاعت أطقم قنص الدبابات من تدمير عدد لا يستهان به من الدبابات .. ولأول مرة في تاريخ الحروب الحديثة يواجه جندي المشاة الدبابة بسلاح خفيف "الآر. بي. جي" .. ولم يستطع قادة المدرعات الإسرائيلية استيعاب هذه المفاجأة , وتكبدوا خسائر فادحة لم يعوضهم عنها إلا الاستعانة بمدرعات ودبابات تابعة للولايات المتحدة الأمريكية عبر الجسر الجوي المباشر من أمريكا إلي ساحة المعركة في سيناء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق